سؤال لزوار المعرض: هل تنهي الكتب التي تبدأ بها.. أم أنك من هواة التكديس؟

أربيل / جنان السراي

في الزحام الخفيف قرب جناح دار الرافدين، كان صوت موظف المبيعات يصدح بأسماء الكتب المفضّلة لهذا العام، بينما على الجانب الآخر كانت طاولة العناوين المخصّصة بتخفيضات المعرض تغصّ بزوار يبحثون بعينين لامعتين وحقائب ممتلئة. لم يكن لافتاً عدد المشترين بقدر ما كان لافتاً السؤال الذي يُمكن أن يُطرح على كل واحد منهم: هل ستقرأ كل هذه الكتب؟ أم أن بعضها سيذهب إلى رفّ النسيان؟ سؤال بسيط لكنه يحمل الكثير من العمق، لا يُقصد به التشكيك، بل محاولة لفهم العلاقة التي تجمع القارئ بالكتاب: هل هي علاقة معرفة؟ هواية؟ تكديس جمالي؟ أم عادة اجتماعية؟

هيوا، خريج إدارة أعمال، كان يقف بثقة أمام رف كتب علم الاجتماع. يحمل كتابًا لعلي الوردي، ويبتسم كمن وجد صديقاً قديماً، ويقول: “أقرأ ما بين عشرة إلى خمسة عشر كتاباً في السنة، وأخصص وقتاً لإعادة قراءة كتب علي الوردي كل عام. أعتبرها مثل الجرعة التي توازن نظرتي للحياة”. وحين سُئل عمّا إذا كان يُنهي الكتب التي يبدأ بها، أجاب: “أنا أشتري بوعي، لا أشتري إلا ما أعلم أنني سأقرؤه، حتى لو تأخر قليلاً على الرف، لكنه سيُقرأ، لا أؤمن بتكديس الكتب للزينة.” بدا من حديثه أنه ينتمي إلى فئة القرّاء المنتظمين، الذين يشبهون القرّاء القدامى: لا تغريهم الأغلفة بقدر ما يهمهم المحتوى، ولا يركضون خلف القوائم الأكثر مبيعاً، بل يركّزون على ما يُضيف لرصيدهم الشخصي من الفهم.

في زاوية قريبة، كان دلاور، طالب في المرحلة الإعدادية، يتفحّص كتاباً عن “قصص تاريخية مبسطة”. بدا أكثر واقعية حين قال: “لا أقرأ كثيراً، يمكن كتاب أو كتابين في السنة. لكن آخذ كتباً للفراغات، خاصة أيام العطل، بدل ما أظل على الهاتف”. كانت إجابته صادقة وخالية من التجميل، وأردف قائلاً: “أنا أشتري ما يشدّني بالغلاف والعنوان، وإذا ما عجبني، ما أكمله.” لا يُنهي دلاور كل ما يبدأ به، لكنه يعتبر اقتناء الكتب نوعاً من التغيير، أو كسراً للروتين. وربما هذه البذرة الصغيرة هي ما تحتاجه عادة القراءة لتنمو لاحقاً.

أما عز الدين، وهو رجل ستيني متقاعد، أنيق في لباسه وكلماته، فكان يحمل بيده كيساً فيه أربعة كتب دينية متنوعة، بعضها في الفقه وبعضها في التأملات القرآنية. قال بابتسامة هادئة: “أنا لا أقرأ كل كتاب فوراً، لكنني أقتنيه لأنني أعلم أنني سأعود إليه لاحقاً. مكتبتي مثل أولادي، لا يمكن أن أشتري كتاباً وأنساه، لكنّ لكل واحد منهم وقتاً خاصًا”. أشار إلى أن بعض الكتب ظلت سنوات على الرف قبل أن يقرأها، لكنه لا يندم على اقتنائها، وأضاف: “العلاقة بالكتاب تشبه العلاقة بالإنسان، تحتاج وقتاً وظرفاً مناسباً لتبدأ”.

وفي الجهة الأخرى، كانت سؤدد، مدرسة متقاعدة في الخمسينات من عمرها، تمسك كتاباً عن التاريخ الإسلامي في الأندلس. حين طُرح عليها السؤال، أجابت بحزم ممزوج بابتسامة: “غالباً نعم. أنا أحب التاريخ، العربي والغربي، وأقرأ بشكل منتظم. الكتاب بالنسبة لي ليس هواية فقط، بل ضرورة نفسية.” قالت إنها منذ تقاعدها أصبحت تقرأ أكثر مما كانت تفعل في السابق، وربما تجد في الكتب تعويضًا عن الفصل الذي غاب من حياتها حين ودّعت طلابها. “أنا لا أشتري الكتب للعرض، أشتريها لأعيشها. وإن لم تعجبني، أتوقف فوراً. لا أكلّف نفسي بكتاب ثقيل لا يحرّك شيئاً بداخلي”.

وبين ركن وآخر، تصادف ابتسامة نور، إحدى العاملات في جناح دار المدى. بحماسة واضحة تحدثت عن أيام المعرض قائلة: “الإقبال هذا العام كبير جداً، والناس لا يشترون بعشوائية. كثيراً ما يسألون عن العناوين بتفاصيل دقيقة، وعن محتوى الكتاب والكاتب وتجربته. هذا دليل على أن أغلب الزوّار قرّاء حقيقيون، وليسوا فقط متسوقين.” تتابع نور: “في بعض الأحيان، نجد أشخاصاً يعودون في اليوم التالي ليشتروا كتباً كانوا مترددين بها، وهذا معناه أنهم يفكرون ويخططون لقراءاتهم. هذا النوع من الزبائن يعطي المعنى الحقيقي للمعرض”. وختمت بابتسامة واثقة: “نحن نشهد تفاعلاً رائعًا، والمبيعات تؤكد أن هناك شغفاً حقيقياً بالكتب، والقراء ما زالوا هنا، بقوة”.

بين هوَس الشراء وصدق القراءة، تتفاوت إجابات الناس كما تتفاوت عناوين الكتب المعروضة في المعرض. البعض يشتري بدافع الشغف، البعض الآخر بدافع الفضول أو “النيّة المؤجلة”، وهناك من يشتري لأنهم ببساطة لا يستطيعون مقاومة رائحة الورق، تماماً كما لا يستطيع أحدهم مقاومة أغنية يحبها حتى لو سمعها ألف مرة. وفي كل الحالات، لا يبدو أن “التكديس” بالمعنى السلبي هو السائد، بقدر ما هي عادة تشكّلت مع الوقت، وارتبطت بشيء أعمق من القراءة: الطمأنينة.

قال رسول وهو أحد الزوّار العابرين: “قد لا أقرأ كل ما أشتري، لكن وجود الكتب حولي يجعلني أهدأ. كأنها تؤكد لي أنني ما زلت أبحث عن المعنى، وما زال لدي وقت لأفهم أكثر”.

ربما لا تنتهي كل الكتب التي نبدأها، وربما تبقى بعضها للأيام التي لم تأتِ بعد، لكن المعرض يبقى تلك المحطة التي نعيد فيها علاقتنا بالقراءة إلى سكة الحياة. سكة فيها المتفرغ والمشغول، العاشق والمبتدئ، الجادّ والعابر. وكلهم، بطريقة أو بأخرى، يقرأون أنفسهم في كل كتاب يشترونه، حتى لو لم ينهوا الصفحة الأخيرة.

Scroll to Top