
أربيل / جنان السراي
في معرض أربيل الدولي للكتاب، حيث تُعلّق الكلمات على الرفوف وتُرصّ العناوين مثل سلاسل لامعة من المعاني، كان هناك نوع آخر من الحكايات لا يُروى بالحبر، بل يُصاغ بالخيط والخرز ورائحة لا تُنسى.
هناك، وقف أنور مجيد خلف طاولة مغطاة بقطعة قماش مطرّزة يدوياً، يعرض للزائرين قطعاً صغيرة تكاد تتحدث بنفسها: أساور، قلائد، قطع للرأس، خيوط تتدلى منها أعواد القرنفل، وعشبة الشمري المكوّرة كزهور مجففة، تنتظر أن تستقر في صدر امرأة كردية لتُكمل حكاية زيّها.
يقول أنور، الذي يعمل في هذا المجال منذ سنوات:
“هذه ليست مجرد إكسسوارات للزينة. نحن نصنعها من أعواد القرنفل وعشبة الشمري لأن لها قيمة تراثية وجمالية. القرنفل يعطي رائحة طيبة تدوم أياماً، والشمري هو عشبة استخدمتها نساء كوردستان منذ القدم في التزيّن، خاصة في المناسبات والأعراس”.
ورغم أن زوايا المعرض تعجّ بالكتب وقرّائها، فإن الجناح الصغير الذي يشغله أنور يجذب نوعاً آخر من الزوار؛ أولئك الذين يبحثون عن قطعة تربطهم بماضٍ عطِر، أو تفصيل صغير يعيد إليهم مشهداً قديماً من بيت الجدة أو احتفالات العيد.
“الرائحة جزء من الذاكرة”، تقول هورين، امرأة خمسينية جاءت من دهوك برفقة ابنتها، وتضيف وهي تضع سواراً على معصمها لتجرب رائحته:
“أمي كانت تضع مثل هذه القلادة، وكان القرنفل يعبق في شعرها. لم نكن نحتاج للعطر، كانت الرائحة تأتي من الحلي نفسها”.
وعلى رف صغير خلف الطاولة، توضَع العشبة الجافة في أكياس قماشية صغيرة، تُستخدم إما للتزيين أو لإضفاء رائحة عطرية داخل الخزائن وحقائب اليد. يشير أنور إليها قائلاً: “الشمري يهدّئ الأعصاب، ورائحته تظل ثابتة حتى بعد فترة طويلة. بعض الزبائن يشترون هذه الأكياس فقط ليضعوها بين ملابسهم».
أما تالين، وهي شابة في أوائل العشرينات جاءت من السليمانية، فتبحث عن قلادة مزيّنة بالخرز الأزرق وأعواد القرنفل، وتقول بابتسامة: “أحب أن أرتدي هذه الإكسسوارات مع فستاني الكوردي، خصوصاً في الأعراس والمهرجانات. أعتبرها جزءاً من هويتي، ومجرد وجودها يعطيني شعوراً بالانتماء”.
الإكسسوارات المعروضة لا تعتمد فقط على الشكل الجمالي، بل تحمل في مكوناتها رسالة ثقافية. القرنفل، المعروف برائحته القوية وطرده للحشرات، يُستخدم منذ القدم كعطر طبيعي، وتعتبره النساء الكورديات رمزاً للأنوثة والنظافة والاحتفال. أما عشبة الشمري، ذات اللون الأخضر المائل إلى الصفرة، فهي من النباتات العطرية التي تُجفف وتُستخدم في الزينة أو تُحشى في الأقمشة والخيوط.
يؤكّد أنور أن هذه الإكسسوارات لا تُباع فقط للسياح أو الزوار العرب، بل تلقى رواجاً أيضاً بين الشابات الكورديات، خاصة في المناسبات القومية أو الأعياد، ويضيف: “كثير من الفتيات يطلبن تفصيلات خاصة تتناسب مع لون الفستان أو نمط الزينة، وبعضهن يطلبن تطريز أسمائهن على الخيط المربوط بالقرنفل».
ولا يقتصر استخدام هذه الإكسسوارات على النساء فحسب، إذ يعرض أنور أيضاً خيوطاً عطرية يُعلّقها بعض الرجال في سياراتهم أو يربطونها حول المرآة، لأنها تذكّرهم بالبيت والأم والطفولة، كما يقول راميل وهو أحد الزبائن الذي اكتفى بابتسامة وهو يشتري ثلاثة أساور معطّرة، قائلاً: “واحدة لأمي، واثنتان لأخواتي.. والذكرى لي”.
الإقبال الكبير على الجناح دفع البعض إلى التوقف ليس فقط للشراء، بل للحديث والحنين، وللالتقاط صور مع القطع المصنوعة يدوياً، والتي يبدو أنها لا تحمل طابعاً تجارياً بقدر ما تحمل طابعاً وجدانياً.
“كل قطعة هنا وراها وقت وجهد وإحساس، ليس فقط شغل يد، هذا شغل قلب”، يقول أنور وهو يعيد ترتيب قلادات اختلّ صفّها من كثرة الأيدي التي مرّت بها. معرض الكتاب، الذي اعتاد الزوار أن يأتوا إليه للقراءة والمعرفة، قدّم هذا العام، في أحد أركانه، درسًا آخر: أن الذاكرة لا تُحفظ في الصفحات فقط، بل في الروائح، وفي تفاصيل الزينة، وفي حكاية سوار صغير يضمّ حبات قرنفل، وعشبة شمري، وخيطًا من حرير، وحكاية لا تنتهي.