
جنان السراي
في أروقة معرض أربيل الدولي للكتاب، حيث تختلط رائحة الورق بالحوار الثقافي القادم من مختلف أنحاء العراق، لم تكن الروايات فقط هي ما جذب الزوّار هذا العام، بل كانت هناك محطات أخرى توقّف عندها كثيرون، أبرزها أجنحة الإصدارات الجديدة في مجالي القانون والتاريخ، والتي حملت بين طيّاتها سرديات جديدة، ومراجعات دقيقة، وتأملات عميقة في الماضي والحاضر.
اللافت هذا العام لم يكن الكمّ فقط، بل الكيف. فقد برزت أعمال حديثة تبحث في تفاصيل دقيقة من الذاكرة العراقية، إلى جانب دراسات قانونية توضح واقع العدالة في البلاد، وسط اهتمام واضح من شريحة متنوّعة من الزوّار.
في جناح دار “نصوص” للنشر، التقى (ملحق المدى) بالناشر أياد حسن، الذي تحدّث عن الإقبال غير المتوقع على الكتب القانونية هذا العام، قائلاً: “ما كان مألوفاً أن نجد طلباً عالياً على مؤلفات القانون في معارض الكتب، لكن يبدو أن الجمهور بدأ يبحث عن أدوات فهم الواقع، وحقوقه، وحدود القانون، خصوصًا في بلد مثل العراق يعيش تحديات يومية على مستوى النظام القضائي”.
وأشار حسن إلى أن بعض الكتب التي طُرحت حديثاً، مثل “القانون الجنائي بين النص والتطبيق” و”مفهوم الحق في الدستور العراقي”، شهدت تفاعلاً من أساتذة جامعات وطلاب قانون، وحتى قرّاء عاديين مهتمين بالشأن العام.
عرضت “دار جبال” مجموعة من الكتب التاريخية التي تنقّب في أحداث وحقب ظلّت خارج دائرة الضوء. آمنة، وهي بائعة في الدار، قالت لـ(ملحق المدى): “نحن لا نعيد طباعة كتب التاريخ التقليدية، بل نبحث عن مؤلفات جديدة تعيد قراءة الأحداث، وتطرح أسئلة أكثر مما تقدّم أجوبة جاهزة”. ومن بين الكتب التي عرضتها الدار، برز عنوان “تحولات الهوية في العراق الحديث”، الذي يرصد كيف تغيّرت الانتماءات الدينية والقومية على مدار القرن الماضي، وكتاب “أصوات النساء في التاريخ العراقي”، الذي استعرض تجارب نساء مؤثّرات تمّ تجاهلهن في السرد الرسمي. وتؤكد آمنة أن الإقبال على هذه العناوين يفتح شهية الناشرين لطرح المزيد من الأعمال التاريخية غير النمطية: “الناس تريد أن تفهم ما حصل، ولماذا وصلنا إلى هنا. التاريخ ليس للماضي فقط، بل لفهم الحاضر وبناء المستقبل”.
أحمد توفيق، زائر من مدينة الموصل، كان يتنقّل بين رفوف الكتب التاريخية بعين الباحث، يقول: “أنا مهتم بفترة العهد العثماني وبدايات القرن العشرين، وأبحث عن مصادر مختلفة غير تلك التي درسناها في المدارس. وجدت كتباً توثّق شهادات ناس عاشوا الأحداث، وهذا النوع من التاريخ أقرب للناس وأكثر مصداقية”. يرى أحمد أن القراءة في التاريخ تمنحه فهماً أعمق للتركيبة العراقية، ويقول: “أعتقد أن مشاكلنا المعاصرة جذورها في الماضي، وإذا ما فهمنا كيف كنّا ولماذا تغيّرنا، يمكن أن نصلح الكثير”.
في حديث مع أستاذ التاريخ الحديث في جامعة بغداد، الدكتور زين العابدين خلال زيارته للمعرض شدّد على أهمية هذا النوع من الإصدارات في إثراء التعليم الجامعي، قائلاً: “نعاني في الجامعات من نقص في المصادر الحديثة، وأكثر ما بين أيدي الطلاب هو كتب قديمة أو مترجمة بشكل ركيك. هذه الإصدارات التي نراها اليوم في المعرض ضرورية لتعزيز البحث العلمي وربط الطلبة بالمستجدات”. ويضيف “كثير من هذه الكتب يقدّم قراءات نقدية لما كنّا نعتبره مسلّمات، وهذا ينعش النقاش الأكاديمي ويفتح الأفق للطلاب لتبنّي مواقف فكرية مستقلة”.
لا يمكن فصل القانون عن التاريخ في كثير من هذه الكتب؛ فكلاهما يعالج قضايا الهوية، الحق، السلطة، والمجتمع. وقد لاحظ (ملحق المدى) أن عدداً من العناوين، مثل “ذاكرة المحاكمات السياسية في العراق”، تجمع بين التأريخ والتحليل القانوني. يقول أحد الزوّار وهو يتصفّح كتابًا عن محاكمات 1963: “كأنك تقرأ رواية بوليسية، لكن كل شيء حقيقي وأنت طرف في هذا التاريخ حتى وإن لم تكن حاضراً فيه”.
في معرض يعجّ بالروايات والكتب التنموية، أن تجد هذا الحضور الملفت للكتب الجادة في التاريخ والقانون، يعني أن هناك جمهوراً يريد ما هو أكثر من الترفيه. جمهور يبحث عن الأسس، عن الجذور، عن القوانين التي تُبنى بها الأوطان والحقائق التي لا يجب أن تُنسى.
وهذا ما يختصره راميل وهو أحد الزوّار في المعرض: “ما فائدة أن نقرأ ألف رواية، إن لم نقرأ كتاباً واحداً يخبرنا لماذا سقطت المدن، ومتى يمكن أن تنهض؟”.
معرض أربيل في يومه الخامس، يذكّرنا أن الكتاب ليس فقط أداة للتسلية، بل هو مرآة للعدالة، ودفتر للذاكرة، ومنصة للنقاش. وأن ما بين دفّات القانون وسطور التاريخ، تكمن خرائط الطريق نحو فهم أعمق لذواتنا، كأفراد وكوطن.