
أربيل / جنان السراي
لم تكن الكتب وحدها حاضرة في معرض أربيل الدولي للكتاب، بل جاءت الموسيقى أيضاً لتكون ضيفاً أنيقاً ينساب بين الأجنحة، يترك أثراً في الذاكرة ويمنح لحظات التصفح مذاقاً مختلفاً.
عند مدخل القاعة الكبيرة، كان عازف العود يجلس بهدوء على مقعد خشبي، يعزف لحناً تراثياً كوردياً، بينما تمرّ بجانبه عوائل وأفراد يحملون أكياساً مملوءة بالكتب. البعض يتوقف للحظة، يبتسم، يلتقط صورة، ثم يواصل طريقه، كأن الموسيقى كانت نقطة استراحة للروح قبل الانتقال إلى جناح آخر.
ليست الموسيقى ترفاً هنا، بل جزء من روح المعرض، هكذا قال آلان حسن، طالب في كلية الفنون الجميلة بجامعة صلاح الدين للمدى مضيفاً: من الجميل أن نرى الثقافة بمفهومها الواسع: كتاب يُقرأ، ولحن يُعزف، ومكان يحتفي بالحياة بكل أشكالها».
فعلياً خُصصت مساحة يومية ضمن برنامج المعرض للعروض الموسيقية، وكان لافتاً تفاعل الجمهور، حيث جلس البعض على الأرض ليستمع، بينما صفق آخرون إعجاباً في مشهد غير مألوف لمعارض الكتب التقليدية.
في زاوية أخرى، بالقرب من جناح كتب الفنون، جلست سهران قادر، وهي معلمة علوم من أربيل، تتابع عرضاً لعازف كمان شاب تقول لـ(ملحق المدى): هذه المرة الأولى التي أشعر فيها أن المعرض يشبه مدينة ثقافية حقيقية. هناك كتاب في اليد، ونغمة في الأذن، وابتسامة على الوجوه. مزيج يصعب مقاومته».
وتضيف: أشعر أن الموسيقى والكتاب يشتركان في وظيفة واحدة؛ تحريك ما هو ساكن داخل الإنسان».
الفعالية الموسيقية، التي بدت ثانوية في جدول اليوم الأول، سرعان ما تحولت إلى محطة ينتظرها الزوّار. وفي تصريح لـ(ملحق المدى)، أوضح نشوان، مهندس الصوت للدورة الرابعة من المعرض، أن الفكرة جاءت من الرغبة في خلق جوّ أكثر انفتاحاً وتنوعاً ، على حد تعبيره.
نحن لا نريد معرضاً صامتاً. نؤمن أن الثقافة ليست صمتاً مقدّساً بل حيوية وتفاعل. لهذا كانت الموسيقى خياراً طبيعياً ضمن رؤية هذا العام.
ويضيف: الموسيقى تجذب جمهوراً مختلفاً وتفتح مساحة للتأمل والارتياح وسط الزحام. هي تجربة سمعية تُكمل البُعد البصري والنصي للمعرض».
وعلى الرغم من بعض الأصوات التي رأت أن الموسيقى قد تُشتت التركيز داخل فضاء القراءة، إلا أن معظم الزوّار اعتبروها إضافة جميلة، بل ضرورية.
يقول هوزان جلال، وهو زائر من محافظة دهوك: أنا من النوع الذي لا يقرأ إلا في صمت، لكن هنا اختلف الأمر. كنت أتصفح رواية، وفجأة سمعت نغمة هادئة جعلتني أسترسل في القراءة بشكل أعمق. ربما للموسيقى دور لم نكن ننتبه له».
في اليوم الرابع من المعرض، أصبحت الفقرات الموسيقية تُدرج بشكل رسمي ضمن الجدول اليومي، إلى جانب الندوات وورش العمل وتواقيع الكتب. وبدأ بعض الكتّاب أنفسهم يعبّرون عن سعادتهم بهذه الإضافة، معتبرين أن الموسيقى تُقرّب الناس من الكتاب بطريقة غير مباشرة.
الكاتب والروائي الكوردي كوفان سندي صرّح لـ(ملحق المدى) قائلاً: المعرض لم يعد مجرد مكان لبيع الكتب، بل فضاء للتجربة الحسية الكاملة. حين أرى طفلاً يتوقف ليستمع لعازف ناي، ثم يدخل جناح كتب الأطفال، أعرف أن شيئاً جميلاً يحدث.
وبين أجنحة الشعر، ورفوف الروايات، وكتب الفن والفلسفة، تمرّ الموسيقى كخيطٍ غير مرئي، يربط الزائر بالمكان، ويمنحه لحظة تأمل قد لا يجدها في صخب الحياة اليومية.
في النهاية، لم يكن حضور الموسيقى في معرض الكتاب أمراً ترفيهياً عابراً، بل جزءاً من فلسفة ثقافية جديدة، ترى في الفن بأنواعه امتداداً للكلمة، وتؤمن بأن النغمة قد تفتح قلب القارئ قبل أن تفتح عينه على الصفحة.
في أربيل، هذا العام، لم يكن الكتاب وحده هو البطل، بل تشارك معه العود، وصوت التصفيق.. في سيمفونية لا تُنسى.