
أربيل / جنان السراي
في معرض أربيل الدولي للكتاب، حيث تتقاطع اللغات واللهجات، وتتنوع الرؤى بين قارئ يبحث عن رواية نادرة وآخر يسأل عن كتاب متخصص، كان لافتاً أن تتحوّل بعض الندوات والحوارات الجانبية إلى مناقشة واحدة من أكثر القضايا إثارة في عالم النشر الحديث: الذكاء الاصطناعي، والكتابة.
على غير المعتاد، لم يكن الحديث عن مؤلف مميز أو إصدار جديد، بل عن “كاتب” افتراضي، لا يعيش بيننا، لا يحمل جرحاً قديماً ولا يكتب من ذاكرة الطفولة. إنه الذكاء الاصطناعي، الذي بات يقتحم عالم الأدب والفكر، ويثير تساؤلات كبيرة: هل تكتب الآلة كما يكتب الإنسان؟ وهل يمكن لبرنامج حاسوبي أن يمسّ وجدان القارئ أو يحاكي التجربة البشرية؟
أحمد سلام، مؤسس دار “جسد” للنشر، تحدّث إلى (ملحق المدى) حول هذه الظاهرة، قائلاً :
“الذكاء الاصطناعي الحالي لا يستطيع كتابة النصوص بشكل مشابه للإنسان، لكنه قادر على إنتاج مقالات وروايات تحت إشراف بشري. في المستقبل، قد تتطور التقنيات لتمكين الذكاء الاصطناعي من فهم الجانب الإنساني بشكل أفضل، لكن في الوقت الحالي، لا يزال الإنسان هو المتحكم في عملية الكتابة والتعديل، حتى في الشعر، يمكنه محاكاة الأوزان والتراكيب، لكن الإبداع الحقيقي يأتي من الألم، من الحب، من الخسارة، وهذه أشياء لا تُبرمج”.
هذا الرأي انعكس في أصوات العديد من زوار المعرض.
دنيا وعد طالبة جامعية، قالت وهي تتصفح رواية “أبابيل”:
“الذكاء الاصطناعي يكتب، نعم، لكن الكلمات عندما تُكتب من قلب بشري، تختلف. الروح هي الفارق، والآلة لا تملك روحاً”.
أما مروان جلال، موظف حكومي، فأبدى رأياً أكثر توازناً:
“أرى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة تساعد الكُتّاب، وليس بديلاً عنهم. مثلما لم تلغي الحاسبة علم الرياضيات، بل سهلته”.
في الجهة المقابلة، كانت أم عمر، وهي أم لثلاثة أطفال، تمسك بكتاب تعليمي للأطفال، وقالت بابتسامة لـ(ملحق المدى):
“حتى لو كتب الذكاء الاصطناعي كتباً للأطفال، أفضل أن يعرف أطفالي أن الكاتب إنسان مثلهم. لأن الكلمة التي تنبع من تجربة، تصل إلى القلب”.
ولعل أبرز ما في هذه النقاشات هو التنوع الكبير في الآراء. البعض يرى الذكاء الاصطناعي تهديداً مباشراً للكاتب، فيما يعتبره آخرون فرصة لتطوير أدوات جديدة للإبداع.
بولص رامي، فنان تشكيلي جاء إلى المعرض للبحث عن كتب فنية، عبّر عن قلقه من فقدان الحس الفني في الأعمال التي تنتجها الخوارزميات:
“الإبداع لا يأتي من ترتيب الكلمات فقط، بل من الفوضى التي يحملها الإنسان داخله. أنا أرسم لأن في داخلي شيئاً لا بد أن أُخرجه، وكذلك الكاتب. الذكاء الاصطناعي قد يكتب شيئاً جميلًا، لكنه لن يلامس روحنا”.
في المقابل، قالت دعاء سلمان، مبرمجة حاسوب ومهتمة بالذكاء الاصطناعي:
“برأيي، الذكاء الاصطناعي ليس خصماً للإنسان، بل امتداد له. إذا استخدمناه بذكاء، يمكن أن يساعدنا في تنفيذ أفكارنا بشكل أسرع. المشكلة ليست في التقنية، بل في استخدامها كبديل كامل بدلاً من كونها أداة مساعدة”.
حتى الأطفال كان لهم رأي. شهم (13 عاماً)، جاء مع والده لشراء كتب تطوير ذاتي، قال عندما سُئل عن رأيه:
“إذا كتب الحاسوب قصة، أريد أن أعرف: هل يضحك؟ هل يخاف؟ هل يحلم؟ إذا لم يكن كذلك، سأقرأها، لكنني لن أصدقها”.
اللافت أن الجدل لم يكن تقنياً بقدر ما كان إنسانياً. فالسؤال الحقيقي الذي يدور بين الزائرين لم يكن عن قدرة الآلة على تركيب الجمل أو ضبط الوزن الشعري، بل عن الصدق في الكتابة. من يكتب لأنه امتلأ شعوراً، ومن يكتب لأنه بُرمج على الكتابة.
محمد جمال، مهتم بقراءة الشعر من بغداد، قال وهو يتصفح ديواناً لإحدى الشاعرات العراقيات:
“أنا أقرأ الشعر عندما أكون مرهقاً، أو مشتاقاً، أو حين يتأخر حلمي. الذكاء الاصطناعي يكتب؟ نعم. لكن هل يشتاق؟ هل يخاف؟ هل ينتظر؟ هذا هو الفارق بيننا وبينه”.
وفي ختام اليوم، وبين رفوف الكتب الورقية بدا أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد موضوع عابر، بل سؤال وجودي جديد. البعض يخشاه، البعض يترقبه، والجميع يحاول أن يفهمه.
لكن ما اتفق عليه كثيرون هو أن الكتابة، كما عرفوها، تبقى فعلاً بشرياً مليئاً بالتجارب، بالتناقضات وربما، كما قالت ابتسام وهي سيدة خمسينية كانت تجلس قرب ركن الروايات:
“فليكتب الذكاء ما يشاء، لكن حين أبكي من صفحة، أحتاج أن أعرف أن من كتبها قد بكى قبل أن يكتب”