أربيل/ المدى
كان كتاب محمّد بن إسحاق النَّديم الوراق (تـ: 380هـ) “الفهرست” معجماً لأسماء الكُتب أكثر مِنه للرِّجال؛ وهو مِن الأعمال المبكرة في هذا الشّأن، ثم أتت مِن بعده الفهارس. تجد في هذا المعجم مئات الكتب المفقودة، التي لا أثر لها حتّى يومنا هذا، لكن العديد مِن هذه المفقودات، التي ذكرها النّديم، ثم ياقوت الحموي (تـ: 626هـ) في “إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب” (معجم الأدباء)، ظهرت نصوص في كتب اطلع مؤلفوها عليها واقتبسوا منها، ومَن جمع هذه الاقتباسات وأظهرها في كتاب مثل جهود مصطفى جواد (تـ: 1969) وجمعه للضائع مِن “معجم الأدباء”، جامعاً مادة كتابه ممن اعترفوا بالأخذ مِن الحموي، مطلعاً على معجمه قبل ضياع صفحات أو فصول منه. هذا يجعلنا نقرُّ للمؤلفين الأقدمين بأنهم أمناء في ذِكر مصادرهم، وليس مثلما يُشاع، ويؤخذ عذر للسرقة والاعتداء على جهود الآخرين.
مِن أسباب الضّياع، مِن غير عوادي الزّمن، أو حرق المكتبات، أو أفعال الغزاة، أو منعها مِن التداول فيقضي عليها الإهمال، التلخيصات التي يقوم بها بعضهم، فيهمل الأصل لطوله ويظل المختصر متداولاً، مثل كتاب “مختصر كتاب البلدان”، والكتاب الأصل عنوانه “أخبار البلدان” لابن الفقيه (القرن الثّالث الهجريّ)، الذي ضاع ثم عُثر عليه بعد الاختصار، فوجد أن المُختصر أهمل بلداناً عديدة مِن الأصل، فورد في خاتمة الكتاب “تم الاختصار” (طبعة ليدن 1302هـ)، ثم جاء مَن نشر النَّاقص (السّواد، والأهواز، والتُّرك) محققاً، بجهود المحققين: ضيف الله الزّهراني ومريزن عسري، وصدر عن جامعة أم القرى بمكة (1997).
حصل الإنقاذ مِن أعداء ومِن أصحاب، فلولا ردود المعتزلي أبي الحُسين الخياط (تـ: 290هـ) على أبي الحُسين أحمد بن يحيى الرّاونديّ (تـ: 245هـ)، ما وصلنا كتابه “فضيحة المعتزلة”، الذي ردَّ به على كتاب عمرو بن بحر الجاحظ (تـ: 255هـ) “فضيلة المعتزلة”، فكان كتاب “الانتصار والرّد على الملحد بن الرّاونديّ”، والأخير كان معتزلياً ثم عدل عن الاعتزال، فصار عدواً. لا وجود لأصل ولا منسوخ لـ”فضيحة المعتزلة” لكنه وصل كاملاً بفضل الرّد عليه، ولو عَلم الخياط شيخ المعتزلة في زمانه أنَّ رده سيحيي كتاب عدوه، ما ردّ عليه، وفي العصر الحديث قام الباحث عبد الأمير الأعسم (تـ: 2019) بجمع نصوص الرّاونديّ، التي رد عليها الخياط، وأصدرها بعنوانها: “فضيحة المعتزلة”، لكن جاءت بعض نصوص الفضيحة متداخلة مع نصوص الرَّدِّ، فظهر كأن الراوندي يرد على نفسه، ويرميها بأقذع النُّعوت.
كذلك لولا رد ابن الرّاوندي ما شمر شيخ المعتزلة الخياط عن ذراعه؛ وترك لنّا تاريخاً لأفكار ومقالات المعتزلة، وكان دفاعه عن الجاحظ، الذي يشير إليه بشيخنا، وبالفعل كان الجاحظ أحد شيوخ الاعتزال، مع كل مَن ردَّ عليهم الرَّاوندي. كذلك كتاب “فضيحة المعتزلة” أرخ لمقالات مَن عاصرهم مِن المعتزلة، وكان هو مِن داخلهم. إنها أسباب ومسببات، فكمْ مِن كتابٍ صار سبباً لتأليف ضده، وبذلك تنتعش الأفكار، فلا نعلم أن للجاحظ كتاباً في “حيل اللُّصوص” لولا مَن عيره به قائلاً: “وأما كتبه المزخرفة فأصناف منها حيل اللُّصوص، وقد عَلم بها الفسقة وجوه السَّرقة” (البغداديّ، الفرق بين الفِرقِ)، ولولا ما استشهد به الآخرون فيما كتبوا عن اللُّصُوص.
إذا كان الخياط أنقذ كتاب “فضيحة المعتزلة” لخصمه اللدود أبي الحسين الرّاونديّ، فإن محباً أنقذ كتاب “الأخبار” للجاحظ، الذي ما زال مِن المفقودات، ولم يجمعه أحد، كي يصدر مستقلاً؛ فنشوان الحميريّ (تـ: 573هـ)، وهو يُعد مِن معتزلة اليمن، وهم بالأصل الزّيدية، مِن معتزلة بغداد، أنقذ جزءاً مِن كتاب الجاحظ المفقود “الأخبار”، ذكره أبو الحُسين الخياط بعنوان “تصحيح مجيء الأخبار”.
شغل كتاب “الأخبار” مِن كتاب نشوان الحميريّ “الحور العين” (دار أزال 1985) تسع عشرة صفحة (270 – 289)، نقدرها بنحو أربعة آلاف كلمة، ولا نظن أن الكتاب كامل، لكن أهميته لنشوان الحميريّ كمعتزلي هو ما يُعد بمثابة الجرح والتّعديل في الحديث؛ فيما قاله شيخ المعتزلة وفيلسوفهم إبراهيم بن سيار النَّظام (تـ: نحو 230هـ)، وهو أستاذ الجاحظ، فعنوان “الأخبار” المقصود به روايات الحديث، التي يراها النّظام متناقضة، ويتهم الرواة في هذا التّناقض.
بطبيعة الحال، لم يهتم أصحاب السنن والصّحاح، ولا أصحاب الجرح والتّعديل بمثل هذا الكتاب