صليب وكلمة: الأدب المسيحي في قلب المعرض


جنان السراي

في قلب معرض أربيل الدولي للكتاب، حيث تتقاطع العناوين وتتنوع الأفكار، يبرز جناح الأدب المسيحي وسط هذا التنوع الفكري والأدبي. لا يكتفي هذا الجناح بعرض كتب لقراء محددين، بل يقدم نفسه كمساحة للحوار، ونافذة على قيم المحبة والسلام، في وقت بات فيه التلاقي بين الأديان والثقافات أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

بين رفوف مكتبة كلمة الحياة، بدت انتصار هوما منشغلة بتنظيم كتبٍ تنوّعت بين الدراسات اللاهوتية والروايات الدينية والكتب الموجّهة للأطفال. لكن أكثر ما كان يلفت النظر هو الشغف الذي تُقدّم به هذه الكتب، وكأنها تحمل رسالة شخصية منها إلى الزوّار.

تقول انتصار خلال حديثها لـ(ملحق المدى): “وجودنا في هذا المعرض الثقافي لا يهدف فقط إلى عرض كتب دينية تخصّ فئة بعينها، بل نحرص على تقديم مؤلفات تساعد القارئ، أيّاً كانت خلفيته، على فهم شخصية السيد المسيح وتعاليمه من منظور إنساني وروحي. نقدم دراسات لاهوتية مبسطة، وكتب تفسير للعهد الجديد، وروايات تضيء على مفاهيم الغفران والمحبّة والتضحية. رسالتنا أن يسوع لم يكن نبياً لطائفة، بل رمزاً للعالم أجمع، ونحن نؤمن أن كلمته تصل إلى القلب دون وساطة، ولهذا نحن هنا».

وعلى مقربة من جناحها، كانت الشابة بيرتا بولص تتصفّح كتاباً يحمل عنوان “أجنحة الروح”. بدا على ملامحها نوع من التأمل وهي تقلّب صفحاته. تقول: “منذ فترة بدأت أقرأ روايات مستوحاة من سيرة المسيح، أو تحمل قيمه بطريقة سردية. أشعر أن هذه الكتب تمنحني طمأنينة لا أجدها في أي نوع آخر من الأدب. هناك شيء عميق وصادق في الكتابات التي تدعو للغفران، للمحبّة، لتقبّل الآخر. كثير من الشباب اليوم يبحثون عن السلام، وقد لا يجدونه في واقعهم المليء بالصخب، لكن يمكن أن تلامسهم رواية فيها شخصية مؤمنة، أو موقف فيه رجاء. هذا النوع من الأدب يعزّز الإيمان بالحياة».

وتضيف: “حتى من لا ينتمي للمسيحية، يستطيع أن يجد في هذه الروايات معنى، لأن المحبة والرحمة ليستا ملكاً لدين دون آخر، بل هما لغة إنسانية».

ولا يقتصر حضور هذا الأدب على المؤمنين به، فهناك من يأتي بدافع الفضول، أو الرغبة في فهم الآخر. أحد الزوّار، وهو أحمد كريم، شاب مسلم من بغداد، كان يقرأ باهتمام كتابًا بعنوان “يسوع في الإنجيل والقرآن”. يقول: “أحب أن أقرأ عن الأديان الأخرى، ليس من باب المقارنة، بل لأنني مؤمن أن الدين لا يكون قوياً إلا حين يُختبر في ضوء المعرفة. قرأت عن البوذية، الهندوسية، واليوم أستكشف المسيحية من خلال كتب روحية وتاريخية. أعتقد أن كل دين يحوي جانباً من الحقيقة، وفهمي للمسيح لا يتناقض مع إيماني بالنبي محمد، بل يثريه. هذا النوع من الكتب يفتح لي نوافذ جديدة، ويُسقط كثيراً من الصور النمطية التي نرثها دون وعي”.

من زاوية أكاديمية، تحدث الأستاذ ضياء الدين، وهو مدرس مادة التاريخ من مدينة كركوك، عن أهمية هذه الكتب في بناء وعي معرفي متكامل لدى الطلبة والمهتمين بالتاريخ الديني. يقول: “لا يمكن لأي دارس جاد أن يفهم الإسلام بمعزل عن الجذور التي سبقته. فالمسيحية، واليهودية، والديانات القديمة، كلها تشكل حلقات في سلسلة تطوّر الفكر الإنساني والديني. نحن بحاجة إلى قراءة هذه الكتب بمنظور علمي، لا طائفي، وهذا ما يوفّره المعرض. هناك كتب توضح السياقات التاريخية لنشوء الأديان، وتحلل النصوص المقدسة، وتبين كيف تأثرت الأديان ببعضها البعض. هذا النوع من المعرفة لا يهدد الإيمان، بل يجعله أكثر اتزاناً ونضجاً».

في أجنحة أخرى من المعرض، تُعرض كتب مسيحية للأطفال، تحكي قصصاً رمزية، وتُرفق برسوم جذابة، وتهدف إلى زرع قيم مثل الصدق والتسامح والعمل الجماعي. تقول انتصار هوما عن هذه المبادرات: “نحن نولي اهتماماً كبيرا للأطفال، لأننا نؤمن أن رسالة المحبة يجب أن تبدأ من الصغر. الكتب المسيحية للأطفال لا تُعنى فقط بسرد القصص الدينية، بل نستخدمها كأدوات لبناء شخصية الطفل على أسس أخلاقية وإنسانية”.

يمر الزائر من بين هذه الرفوف وهو ينظر للمكتبة وما تحمله من صور فيتوقف عند كتاب، أو يلتقط كتيباً صغيراً، وربما يخرج وهو يحمل في قلبه فكرة جديدة أو تساؤلاً ما. الأدب المسيحي، كما يُقدَّم في هذا المعرض، لا يسعى إلى فرض نفسه، بل إلى أن يكون صوتاً ضمن أصوات متعددة، يهمس بالحقيقة كما يراها، ويترك للقارئ حرية الإصغاء.

Scroll to Top