
جنان السراي
بين رفوف الكتب المتراصة بعناية، وعناوين تتراوح بين الفكر والفلسفة والتاريخ، يظل جناح دور النشر العربية في معرض أربيل الدولي للكتاب نابضاً بزخم الرواية، كأنها الفن الذي لا يشيخ، والبوابة التي لا تزال تُفتح على فضاءات النفس البشرية.
كان المشهد في ظهر اليوم الثاني من المعرض مزدحماً. قرّاء شباب من مختلف المحافظات يتنقلون بين أروقة الدور اللبنانية والمصرية والسورية والعراقية، يفتشون عن رواية جديدة، أو عن اسم اعتادوه في معارض سابقة. وفي كل ركن تقريباً، كانت هناك نسخة من رواية مباعة، وصفحة موقّعة من كاتب، وابتسامة من قارئة وجدت نفسها في سطر.
رغم انتشار الكتب الإلكترونية، وتزايد الحديث عن تراجع القراءة الورقية، فإن الرواية ما تزال تحظى بجاذبية واضحة في معارض الكتب، خصوصاً لدى فئة الشباب، الذين يرون فيها أكثر من مجرد قصة.
الروائية رحمة فلاح، التي صدرت روايتها “زوّدتك نفسي” عن دار أولد بوك وحققت مبيعات عالية في معرض العراق الدولي للكتاب 2024، تحدّثت إلى (ملحق المدى) من داخل جناح الدار، مؤكدة أن الرواية ما تزال تتربع على عرش اهتمام القارئ العربي، خصوصاً إذا ما جمعت بين الخيال والعاطفة والواقع.
وقالت: “القارئ الشاب ينجذب بنسبة أكبر للروايات، لأنها تنقله عن واقعه وتدخله في عالم آخر، وربما تكون مهربًا من الحياة الواقعية”.
وعن طبيعة الروايات التي تلقى رواجاً، أضافت: “الروايات الخيالية والرومانسية تتصدر المبيعات في أغلب المعارض، لأنها تعطي شعوراً قد يكون القارئ مفتقده. تُصنّف الروايات الرومانسية من أجمل الأنواع الأدبية، لأنها تحاكي قصة ملحمية عن أشخاص تملؤهم العاطفة، فيتعلم القارئ من خلالها عن العلاقات الإنسانية، ويتسع أفقه حول مفاهيم الحب، والتضحية، والاختيار».
وأشارت إلى أن روايتها “زوّدتك نفسي” التي تصدّرت مبيعات دار أولد بوك، نالت إعجاباً كبيراً من قِبل القرّاء الشباب: “الرواية جمعت بين الواقع والخيال والعاطفة الشديدة. ومن خلال سردها، يتعلّم القارئ كيف يتعامل مع الطرف الآخر في العلاقة العاطفية، ومتى يختار نفسه ليضعها في أولوياته، خاصة حين تتكرر التجارب وتُختبر المشاعر».
لكن في مقابل هذا الحضور الطاغي للروايات الخيالية والعاطفية، يعبّر البعض عن قلق من تراجع الاهتمام بالأنواع الأخرى من الكتب، خصوصاً النقدية والسياسية.
أمير علي، من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، يصف واقع الرواية في فئة الشباب بـ”المتذبذب”، ويضيف: “الرواية في فئة الشباب تعاني من قلة الاهتمام عندما تأتي بصيغة نقدية أو فكرية، بسبب صعوبة الكتب الدراسية والنظرية التي نُشّئ عليها القارئ العراقي. بالمقابل، يعتمد الشباب أكثر على كتّاب المحتوى الذين لديهم جمهور على مواقع التواصل، مما يحفزهم على اقتناء الروايات التي لا تشكّل تحدياً فكرياً».
ويتابع: “هناك حاجة للاهتمام بالكتب السياسية والتاريخية، حيث يتم إهمالها لصالح الروايات التي تقدم عوالم بديلة. جزء من ذلك هو هروب من الواقع نحو الخيال، خصوصاً في وضع مثل وضع العراق، حيث يشعر كثير من الشباب بأن الواقع لا يمنحهم إجابات كافية فيهربون للخيال».
هذا التباين في التوجهات يعكسه أيضًا سلوك الزوار. هبة محمد طالبة جامعية، كانت تتصفح رواية عربية في أحد الأجنحة، تقول: “الرواية بالنسبة لي ليست تسلية فقط، بل مصدر لتعلم الحياة. أقرأ عن مشاعر لم أختبرها، وأتخيل مواقف قد أعيشها لاحقًا. هي تدريب على فهم النفس والآخر».
من جانبها، ترى تالا وعد بائعة في أحد دور النشر أن الروايات تُعد اليوم من أكثر الكتب مبيعاً، متقدمة على كتب التنمية البشرية والسير الذاتية: “الطلب على الروايات لم يتراجع، بل زاد، خصوصاً تلك التي تعالج الحب، والألم، والهوية. القارئ يبحث عمن يفهمه، ويبدو أن الرواية تفعل ذلك بشكل عميق».
في ظل هذه الديناميكية، يبرز سؤال مهم: ما سر العلاقة التي لا تنكسر بين الرواية والقارئ؟
ربما لأن الرواية تُشبهنا، تخطئ وتتصالح، تحلم وتنهار، ثم تنهض مجدداً. أو لأنها مرآة يمكننا أن نطلّ منها على ذاتنا، دون أن نشعر بالحرج.
معرض أربيل الدولي للكتاب، في نسخته الحالية، يقدم مشهداً واضحاً القارئ العربي لا يزال متعطشاً للحكاية، والرواية تلبّي هذا التعطش بشغف وأسلوب وقرب. وبين عناوين الحب والمغامرة والخيال، يظل جناح دور النشر العربية مساحة مزدحمة بالبحث عن الذات، وبالأسئلة التي لا تجد جوابها إلا في آخر صفحة.