معرض أربيل للكتاب يرسخ الحوار الثقافي الكوردي – العربي ازدهار الأدب المحلي وحركة الترجمة ورواج الرواية النسائية


عبده وازن

زائر مدينة أربيل للمرة الأولى لا يمكنه الإحاطة بخصائص هذه المدينة التي تمثل في الوقت نفسه مركز محافظة أربيل وعاصمة إقليم كوردستان العراقي. فهي القابعة في شمالي العراق، جارة إيران وتركيا، تتفرد بنفسها وتاريخها وجغرافيتها وسكانها الذين يتوزعون بين أعراق عدة، مثل التركمان والعرب والآشوريين والأرمن، عطفاً على الأكراد الذين هم أهل البلاد ومواطنوها الأولون. يقول طه باقر في كتابه «من تراثنا اللغوي القديم» إن اسم أربيل «قديم، ورد في النصوص المسمارية والمدونات التأريخية من مختلف العهود، وتكاد تكون من بين المدن الآشورية الوحيدة التي ظلت مستوطنة ومحافظة على اسمها القديم إلى يومنا هذا».

لا تكفي بضع جولات «سياحية» على مناطق عدة كي ترتسم في مخيلة الزائر معالم هذه المدينة وهذه المحافظة، التي تجمع بين هويتها التراثية العريقة وطابعها العصري والحديث، جمعاً يبدو حقيقياً حيناً ومرتجلاً حيناً آخر. إنها مدينة ذات أسرار، إن أمكن القول، لا تسلم مفاتيحها بسهولة للزائرين والسياح. أسماء المحال والمتاجر والشوارع والساحات مكتوبة بالكوردية تصحبها اللغة الإنجليزية غالباً وفي أحيان العربية، والمواطنون الذين يمكن الزائر أن يلتقيهم يتكلمون الكوردية عموماً وقلة تجيد العربية.

وجه أربيل الأدبي

لكن زائر معرض أربيل الدولي للكتاب الذي يستمر حتى الـ19 من أبريل (نيسان) الجاري، يكتشف وجهاً من وجوه أربيل الحقيقية، هو الوجه الأدبي واللغوي والثقافي، من خلال الكتّاب والناشرين، كما من خلال الكتب نفسها والندوات المرافقة وسائر النشاطات التي تصاحب الأيام الـ10 للمعرض، وقد افتتح المعرض الرئيس مسعود بارزاني، وتحدث في الافتتاح وجال بين أروقته وأجنحته بحماسة وفرح.

معرض أربيل تنظمه مؤسسة «المدى» للإعلام والثقافة والفنون التي يترأسها الناشر والكاتب فخري كريم، بالتعاون مع وزارة الثقافة والشباب في إقليم كردستان، وحملت الدورة الـ17 هذا العام عنواناً لافتاً هو «العالم يتكلم كوردي»، احتفاءً باللغة الكوردية وبحركة الترجمة الواسعة التي شهدتها الأعوام الأخيرة، وشملت النقل من مختلف اللغات العالمية. وقد بدا المعرض مختبراً للغة الكوردية في انفتاحها على اللغات الأخرى، وفي مقدمها العربية ثم الإنجليزية والتركمانية والآشورية وسواها. حتى اللغة الكوردية نفسها تتسم باعتمادها الحرف العربي والحرف اللاتيني. اللغة المكتوبة بالحرف العربي تسمى السورانية وهي منتشرة في كوردستان العراق وإيران، أما اللغة التي تكتب بالحرف اللاتيني ففي تركيا وسوريا، ولا تشكل هذه الثنائية في الحروف عائقاً أمام التواصل بين الأكراد، خصوصاً في الميدان اللغوي والأدبي. بل إن بعض الكتاب يتباهون بكون لغتهم تكتب من اليمين إلى اليسار (الحرف العربي) ومن اليسار إلى اليمين (الحرف اللاتيني)، وقد اعتمدت اللغة الكوردية ضمن اللغات الأساس في محرك البحث العالمي «غوغل».

تشارك في المعرض هذا العام دور كثيرة، كردية وعربية وأجنبية، وبدا واضحاً أن الكتاب العربي يحضر عبر دور النشر وعبر المكتبات أو ما يسمى «التوكيل»، من دول المشرق والمغرب ودول الخليج. أما الدور الكوردية فحاضرة بوفرة، وبدا أنها تشهد إقبالاً غزيراً من لدن القراء الأكراد الذين تزدحم بهم الأروقة في قاعات تتسع لها مساحة أكثر من 20 ألف متر مربع. فهم ينتظرون هذا المعرض كي يطلعوا على جديد النشر الكوردي، على الكتب المؤلفة أو المترجمة، من العربية أو اللغات الأجنبية. وحركة الترجمة إلى الكوردية تبدو مزدهرة جداً، وفي شتى الميادين: الرواية والشعر والعلوم الإنسانية والسياسية والجيوسياسية والتاريخ والسوسيولوجيا والعلوم التطبيقية والتنمية البشرية وأدب الطفل.

أما برنامج المعرض فيتضمن جلسات فكرية وثقافية وسياسية عدة، يشارك فيها كتاب وباحثون من العراق والبلدان العربية والأجنبية، إضافة إلى لقاءات شعرية وحفلات توقيع كتب جديدة وورشات عن واقع الكتاب وتطوير صناعة النشر، بالتنسيق مع جمعية الناشرين والكتبيين في العراق، وقد تخطى عدد الندوات واللقاءات الـ65.

التنوع الثقافي

لا يبدو معرض أربيل مجرد سوق سنوي لبيع الكتب، بل تحول إلى «مهرجان» أدبي وفكري ينتظره القراء والكتاب ودور النشر بشغف. ففي مشهد يعكس غنى التنوع الثقافي في العراق، يشكل المعرض مساحة حيوية للتبادل المعرفي، وفرصة لتعزيز الهوية الثقافية الكوردية والانفتاح على العالم العربي وسائر الدول، كما يعبر بعض الأكراد.

ويسعى المعرض إلى تعزيز الحوار بين الثقافات، وسط تفاعل جماهيري لافت ومشاركة واسعة من الشباب.

 يؤدي المعرض، كما يجمع مثقفون اكراد، دوراً حيوياً في نقل صورة حضارية وثقافية عن المجتمع الكوردي إلى العرب في بغداد وبقية المحافظات العراقية، بل وحتى إلى الدول المجاورة، فهو يعد منصة للتلاقي بين المفكرين والمثقفين والمترجمين من إقليم كوردستان مع نظرائهم من بقية أنحاء العراق والعالم العربي والعالم.

يقول مدير المكتبات العامة في وزارة الثقافة والشباب في إقليم كوردستان، نوزاد بولص، رداً على سؤال في أحد اللقاءات: «معرض أربيل الدولي للكتاب ليس نشاطاً عابراً، بل أصبح جزءاً أساسياً من الهوية الثقافية في الإقليم. نعتبره مرآة حقيقية لحيوية المشهد الثقافي في كوردستان، وهو في كل عام يمنح فرصة للتلاقي بين مختلف شرائح المجتمع: الشباب والأكاديميين والأدباء، وحتى العائلات التي باتت تعتبر زيارة المعرض طقساً سنوياً». ويضيف: «من أبرز الإيجابيات التي نلمسها في المعرض ازدياد الإقبال على القراءة، لا سيما بين فئة الشباب. المدارس والجامعات تنظم زيارات خاصة للمعرض، ونحن نشجع ذلك ونوفر لها دعماً لوجيستياً، لأننا نؤمن بأن بناء مجتمع قارئ هو حجر الأساس لأي تطور حضاري».

ويقول: «المعرض أيضاً يسهم في تشجيع دور النشر المحلية وتقديم الكتاب الكورد إلى قراء من خارج الإقليم، خصوصاً من بغداد والمحافظات الأخرى، من خلال ترجمة الأعمال الأدبية الكوردية إلى العربية واللغات الأجنبية، نحرص على أن يكون الإنتاج الأدبي في الإقليم جزءاً من المشهد الثقافي الأوسع في العراق والمنطقة».

اللغة الكوردية

في أروقة الدورة الـ17 من معرض أربيل الدولي للكتاب، يلاحظ الزائر، كما قال لي كاتب كوردي عراقي، تنوعاً متزايداً في العناوين الكوردية المعروضة، مما يطرح سؤالاً جوهرياً: هل نجحت دور النشر في تلبية طموحات القارئ الكوردي؟ وقد بدا واضحاً هذا العام الطلب المتزايد على الكتب المترجمة، خصوصاً في مجالات الفلسفة والرواية العالمية.

ويرى هذا الكاتب العراقي الكوردي أن المعرض هذا العام قدم دفعة قوية للكتاب الكوردي المحلي، وبدأت الرواية الكوردية تحظى بمكانتها، وثمة إقبال كبير على مؤلفات الكتاب المحليين، فالقارئ لم يعد يبحث فقط عن الرواية العالمية، بل صار يفتش عن صوته الخاص بين السطور الكوردية.

في المقاهي الثقافية داخل المعرض يبدو واضحاً أن الزوار لم يأتوا فقط لشراء الكتب، بل للمشاركة في حوار ثقافي حي، ويجري الكلام في هذه المقاهي عن أهمية رؤية القارئ الكوردي نفسه ممثلاً في الكتب، وأن يتلمس خصوصيته اللغوية والثقافية في الإصدارات الجديدة.

ويلحظ أحد الأصدقاء المشاركين في تنظيم المعرض أن عدداً كبيراً من الروايات المبيعة كانت من تأليف كاتبات كورديات. تتناول هذه الروايات في الغالب مواضيع مثل الهوية والحرية الشخصية والعلاقة بالأسرة والمجتمع وقضايا مهمة، واللغة شاعرية حيناً ومباشرة في أحيان. واللافت أن الروايات النسائية تعكس جوانب من الواقع الكوردي لا يتطرق إليها الأدب التقليدي، مما يمنح هذه الأعمال صدقاً وجرأة تلقى صدى واسعاً بين جمهور المعرض.

في افتتاح المعرض ألقى الرئيس مسعود بارزاني كلمة أثنى فيها على المعرض وعلى دار المدى التي تنظمه، وعلى صاحبها ومديرها الكاتب فخري كريم، ومما قال: «عاماً بعد آخر، نرى أن معرض الكتاب يشهد تطوراً ملحوظاً، ويكون كل عام أفضل من سابقه. نتمنى دوام ذلك، وأن نراكم بخير دائماً. ومهما تقدمت التكنولوجيا وتطور العالم تبقى مقولة الشاعر العربي الكبير، المتنبي، حقيقة حية وهي: «وخير جليس في الزمان كتاب…»، فقيمة الكتاب وأهميته لن تنتهي أبداً بأي شيء وتبقى حية ومستمرة».

عن اندبندنت عربية

Scroll to Top