
جنان السراي
على مدخل القاعة الرئيسية في معرض أربيل الدولي للكتاب، حيث تلتقي الخطى من كل المدن، وتتصافح اللهجات قبل الأيادي، جلس شاب يكتب شيئاً في دفتره الصغير، بينما انشغلت عائلته بمطالعة العناوين. في هذا الركن الذي تملؤه رائحة الورق والحبر، التقى (ملحق المدى) بعدد من الزوّار، وطرح عليهم سؤالاً: لماذا نعود إلى المعرض كل عام؟
لم تكن الإجابات مباشرة دائماً. بعضها جاء محمولاً بالشغف، وبعضها بنبرة حنين، وأخرى بطابع تأمّلي يعكس علاقة طويلة بالكتب، وربما بالمدن نفسها.
ميس عدنان، طالبة ماجستير في علم النفس من الموصل، كانت تجرّ حقيبة صغيرة امتلأت بعد ساعات من التجوّل في المعرض. تقول: “في مدينتنا، تعلّمنا أن الكتاب ليس فقط للمعرفة، بل للشفاء أيضاً. نعود إلى المعرض كل عام، لأنه يشبه عملية ترميم. شيءٌ داخلي يُرمم حين نمرّ بين رفوفه، ونجد كتباً تقرأنا قبل أن نقرأها”. وتضيف بابتسامة: “أبحث دائماً عن كتب في الفلسفة والتحليل النفسي. هذه السنة وجدت عنواناً رائعاً عن السرد العلاجي في الحروب، شعرت أنه كُتب لنا، للموصل تحديداً”.
في الجناح الكوردي، كان دارا نجم، موظف في ألسليمانية، يحدّق طويلاً في كتاب مصوّر عن تاريخ الخط الكوردي. يقول وهو يطالع الغلاف الأخير: “معرض أربيل هو بالنسبة لي أكثر من مجرد مكان لشراء الكتب. نأتي لنتعلّم، ونتبادل، ونُعيد اكتشاف أنفسنا عبر الآخر”.
ويتابع: “كل عام أشتري كتباً عن اللغة والتاريخ. هذه المرة وجدت إصداراً جديداً عن تطوّر القومية في كوردستان، كنت أبحث عنه منذ عام”.
في أحد الأروقة، كانت هناك عائلة بغدادّية، تقودها الأم بين الأجنحة كدليل سياحي يعرف كل الزوايا. زينة فاضل، معلمة من الكرخ، قالت لـ(ملحق المدى): “أصبحت زيارة المعرض طقساً سنوياً بالنسبة لعائلتي. نجهّز قائمة بالكتب قبل المجيء. حتى أطفالي صاروا يحدّدون اختياراتهم مسبقاً “وتكمل بابتسامة أمٍّ فخورة: “ابني اختار كتباً عن الفضاء، وابنتي اشترت كتاباً للأطفال. أما أنا، فعدت لدواوين نزار قباني، لأن الشعر لا يُغادر القلب مهما كبرنا”.
محمد وعد، شاب من البصرة يسكن في أربيل قال إنّ المعرض يأتي إليه وكأنّه “يطارد ظلاً قديماً في أروقة مكتبة كبيرة”. “أنا من جيل عاش طفولته في مكتبات البصرة القديمة. حين آتي إلى المعرض، أشعر أني أفتّش عن جزء من ذاكرتي. الكتب التي فقدناها، التي احترقت، التي اختفت.. أبحث عنها هنا”. ويضيف: “هذا العام وجدت نسخة نادرة من كتاب نقدي عن السيّاب، لم أكن أتوقع وجودها. شعرت أن المعرض يردّ لي شيئًا من مدينتي”.
أما روناك يوسف، مهندسة معمارية من أربيل، تمسك بثلاثة كتب متنوعة: واحد في التصميم، وآخر رواية مترجمة، وثالث عن المدن القديمة. تقول: “كبرتُ مع هذا المعرض. أول مرة دخلته كنت في رابع جامعة، واليوم أعود إليه بعيون مختلفة، لكن بنفس الدهشة”. وتتابع: “أحيانًا ننسى أنفسنا في زحمة الحياة. المعرض يعيد ترتيب الأشياء داخلنا يجعلنا نعيد التفكير بما نحب، وما نريد أن نكون”.
في اليوم الرابع من المعرض، بدا المشهد كما لو أن كل زائر يحمل مدينة صغيرة داخل كيسه الورقي. مدينة تُقرأ، وتُهدى، وتُحفظ على الرفوف. تضيف أنسام: “كل سنة أشتري أكثر مما أستطيع قراءته… لكنني أحب هذا الإفراط”.
ربما لهذا، يعود الناس كل عام. ليس فقط من أجل الكتب، بل من أجل لحظة الدهشة الأولى، حين يفتحون صفحة، ويجدون فيها ما تحتاجه روحهم