
أربيل / جنان السراي
في إحدى زوايا معرض أربيل الدولي للكتاب، بعيداً عن صخب المنصات وحفلات التواقيع وحوارات النخب الثقافية، كانت هناك ضحكات خفيفة، خطوات صغيرة، وعيون واسعة تلتهم الكتب برسوماتها الزاهية. المشهد بدا مختلفاً تماماً: طاولات ملونة، وسائد أرضية، كتب مصورة، وأطفال يرتدون المراييل المدرسية يتنقلون بين الأركان بفضول لا يشبه إلا الطفولة.
هنا، كان الموعد مع “روضة رونا” وغيرها من رياض الأطفال التي اختارت أن تصطحب طلابها الصغار في رحلة خاصة إلى المعرض. ليس فقط لتقريبهم من الكتاب، بل لجعل القراءة تجربة حيّة، تُلامس أيديهم وتُزرع في وجدانهم وهم بعد في مقتبل الحروف.
طيبة، معلمة في روضة رونا، جلست بالقرب من أطفالها وهي تساعد أحدهم على تقليب صفحات كتاب عن الحيوانات. بعينين تلمعان بحماس، قالت خلال حديثها لـ(ملحق المدى): “أردنا أن نربط الطفل بالكتاب من دون أن يشعر أنه واجب مدرسي. الكتاب هنا يصبح لعبة، مغامرة، قصة تُروى بين الأصدقاء. وجود الأطفال في المعرض خطوة صغيرة لكنها تحمل أثراً طويل الأمد، فنحن نزرع اليوم بذرة حب القراءة”.
في ركن مخصص لكتب الأطفال، كانت الطفلة إيلين، ترتدي قبعة صفراء وتحمل بيدها كتاباً عن الطيور. حين سألناها عن زيارتها، ضحكت وقالت بثقة: “أنا استمتعت جداً! شفت كتب حلوة، واشتريت كتاب فيه بطة صغيرة تطير”. كلماتها جاءت بسيطة، لكنها كانت أبلغ ما يمكن أن يُقال عن أثر هذه الزيارة.
المعرض، الذي عادةً ما يرتبط في الأذهان بالكبار، بدا هذا العام أكثر انفتاحا على الأطفال. من تنظيم الفعاليات التفاعلية، إلى تخصيص مساحات للقراءة الجماعية والرسم، لم يكن حضور الصغار مجرد صورة رمزية. بل كان جزءاً من رؤية تسعى لإعادة بناء علاقة الجيل الجديد مع الورق، في زمن تهيمن عليه الشاشات.
آمنة، بائعة في “دار كلمات” تحدثت عن هذا التفاعل قائلة: “نلاحظ أن الأطفال ينجذبون بقوة للكتب ذات الرسوم التعليمية التفاعلية، التي تربط بين المعلومة والصورة، وتُحفز الطفل على التفاعل مع المحتوى. لم يعد الطفل يتقبل الكتب التقليدية بسهولة، بل يحتاج إلى كتاب يُحادثه ويثير فضوله. ونحن نعمل على تطوير هذا النوع من الكتب، لتكون جزءاً من تجربته البصرية والذهنية”.
بعض دور النشر بدأت تتنبه فعلاً لهذا الحضور، فطورت محتواها بما يتناسب مع هذا الجيل، وأضافت عناصر تفاعلية للكتب مثل الصوتيات، الألغاز، والرسومات ثلاثية الأبعاد. المعلمة طيبة كانت تشرح لأطفالها كيف يعمل كتاب إلكتروني صغير، ثم قالت لهم: “هذا كتاب ذكي! لكن مهما تطور، يبقى الكتاب الورقي له سحره، صح؟” فهزّ الأطفال رؤوسهم موافقين، رغم أنهم ربما لم يفهموا تمامًا ما تعنيه، لكنهم شعروا بالحماسة.
اللافت أيضاً، هو تفاعل الأهالي. بعضهم جاء خصيصاً ليصطحب أطفاله للمعرض، كجزء من “رحلة عائلية للقراءة”. تحدثنا إلى أم شابة كانت تمسك يد ابنها وتساعده على اختيار كتابه الأول، فقالت: “ابني عمره خمس سنوات، واليوم اشترى أول كتاب من اختياره. أردت أن يرتبط بفكرة أن القراءة متعة، وليست مفروضة”.
الروضة لم تكتفِ بالزيارة فقط، بل أعدّت برنامجاً مصغراً للأطفال داخل المعرض، شمل رسماً حراً عن القصص التي قرأوها، ونشاطات تحاكي مضامين بعض الكتب. طيبة تقول إنهم سيعودون إلى المدرسة ويحكون ما عاشوه لأقرانهم، ليبدأ حديث صغير بين الأطفال عن الكتب. “وهكذا تبدأ العدوى الجميلة”، أضافت بابتسامة.
حين يسأل أحدهم: ما الذي يجنيه طفل في عمر الرابعة أو الخامسة من زيارة معرض كتاب؟ فإن الجواب لا يُقاس بالكمّ، بل بالنوع. طفل يرى الكتاب خارج صفّه، في مكان عام يحتفي به، سيُكوِّن صورة مختلفة عن القراءة. طفل يشتري كتاباً بنفسه، سيشعر أنه جزء من عالم الكبار، وأن له صوتاً ورأياً.
الطفلة إيلين عادت في نهاية الجولة لتجلس أرضاً وتقلّب كتابها الجديد. لم تكن تعرف أن هذا الكتاب قد يكون بداية رحلة طويلة من الاكتشافات. وربما، بعد سنوات، ستقف هي ذاتها هنا، كزائرة راشدة تتذكر يومها الأول في المعرض حين صافحت الطفولة الحروف لأول مرة.
بهكذا مبادرات، يتحول معرض أربيل الدولي للكتاب إلى أكثر من مجرد سوق ثقافي. يصبح مساحة تربية، وتجربة عمر، وبداية علاقة دافئة بين الأطفال والكتاب. لأن القراءة، كما يقولون، لا تبدأ من المدرسة فقط، بل من لحظة دهشة أولى، يشاهد فيها الطفل غلاف كتاب ويشعر برغبة عارمة في أن يعرف ما الذي يُخبئه خلف تلك الصفحات.