«ليس لي».. زوار يشترون كتباً لمن يحبّون

أربيل / جنان السراي

في زحام الرفوف، وبين أكوام العناوين المتناثرة، لا يبحث الجميع عن كتابٍ لأنفسهم فقط. ثمة مَن يفتح صفحة، ويتفقد الغلاف الخلفي، ثم يقول للبائع بصوت خافت: “هذا ليس لي.. إنه لمن أحب”.

في معرض أربيل الدولي للكتاب، يتجول الناس وهم يحملون أسماء في رؤوسهم، لا عناوين كتب. يتنقلون من دار إلى دار، ومن جناح إلى آخر، وهم يسألون: “هل عندكم شيء عن الفلسفة الحديثة؟ صديقتي تهتم بهذا المجال”، أو “هل هناك رواية رومانسية جديدة؟ زوجتي تحب هذا النوع”. هكذا تتحول الكتب، فجأة، من متعة شخصية إلى هدية حميمية، تحمل ما لا يمكن قوله أحياناً بالكلمات.

إيفان، شاب في العشرينيات من العمر، وقف أمام رفّ في دار المشرق يتأمل غلاف رواية بعينين دافئتين. سأل البائع عن مضمون الرواية، ثم ابتسم وقال خلال حديثه لـ(ملحق المدى): “أنا لا أقرأ كثيراً، لكن خطيبتي تعشق الكتب. هي تحب الكاتبات تحديداً، وأحاول أن أختار لها شيئاً يليق بذوقها. لا أعلم إن كانت ستقرأه اليوم أو بعد شهر، لكنني متأكد أن الكتاب سيسعدها أكثر من أي هدية مادية».

أما ئه ڤين التي جاءت من السليمانية، فكانت تمسك بعدة كتب مغلفة، وقد كتبت على كل منها اسم شخص مختلف. تقول بابتسامة: “هذه لزملائي في العمل. أعرف أن كل واحد منهم يحب نوعاً معيناً من الكتب. أحدهم يحب التاريخ، وآخر الأدب الروسي، وثالث مولع بكتب التحفيز. أنا لا أحب أن أشتري الهدايا التقليدية، وأجد في الكتاب شيئاً مختلفاً.. كأنك تقول للآخر: فكرت بك حقاً، وبما تحب، وقررت أن أمنحك شيئاً يبقى لأحفادك”.

وليس الحب هنا فقط حب العشاق، بل هو شعور واسع يمتد إلى الأصدقاء والأبناء وحتى الغرباء. يزن، طالب جامعي من بغداد، كان يحمل كتابين في يده، فسألناه لمن يشتريهما، فقال: “الأول لأخي الأصغر، أحب أن أزرع فيه حب القراءة، والثاني لعمي الذي طلب مني في المرة الماضية كتاباً عن التصوف ولم أجده. هذه المرة وجدته، وسأفاجئه به. هو لا يستطيع القدوم إلى المعرض لكنه يحب ان يقرأ خصوصاً بعد ان تقاعد من العمل وأصبح لديه وقت أكثر».

في زاوية هادئة من المعرض وتحديداً عند مكتبة أشاور بانيبال كانت ندى من الرمادي، تتأمل كتاب “ألف ليلة وليلة” حين سألناها عن السبب، قالت: “هذا هو أول كتاب أهديته لزوجي، قبل زواجنا، قبل أكثر من عشرين سنة. ومنذ ذلك اليوم، بدأتُ ببناء مكتبتي. اليوم عدت لأشتريه مجدداً ليس لأنني فقدت النسخة القديمة، بل لأنني أحب أن أحتفظ بنسخة منه لكل ابن من أبنائي. هذا الكتاب كان بداية حكايتنا».

على الجهة الأخرى من المشهد، يقف الناشرون أيضاً كشهود على قصص الحب بين القرّاء وكتبهم. أيمن، صاحب دار الأهلية للنشر والتوزيع، روى لنا حادثة لا ينساها، قائلاً: “قبل ثلاثة ايام، جاءت فتاة إلى جناحنا، كانت تبحث عن كتاب محدد لصديقتها. قالت لي: (هي تمرّ بوقت صعب، وهذا الكتاب قد يواسيها). بعد يومين عادت ومعها صديقتها، والعينان تدمعان من الفرحة. لا أنسى هذا المشهد. الكتب تصنع لحظات نادرة، ليست مجرد أوراق، بل هدايا مشبعة بالمعنى”.

في المعرض، لا تُلفّ الكتب بورق الزينة، لكنها تُقدَّم بقلب مفتوح. يتبادلها الأحبة والأصدقاء والمعلمون والطلبة، كلٌّ على طريقته. كثيرون يكتبون على الصفحة الأولى إهداء صغيراً: “إلى من جعل العالم أرحب”، أو “لتكن هذه الصفحات رفيقتك حين أكون بعيداً”. بعضهم لا يكتب شيئاً، فقط يختار الكتاب بعناية، ويقدّمه كصمت مليء بالكلام.

قد تكون الهدية ساعة، أو عطراً، أو قطعة حلوى، لكنّ الكتاب يحمل معنى آخر. هو رفيقٌ لا يُستهلك، وهديّة لا تذبل. ووسط هذا المشهد في معرض أربيل، يبدو أن كثيرين لا يشترون لأنفسهم، بل لأشخاص يسكنون قلوبهم، فيقولون للبائع حين يسلّمهم الكيس: “هذا ليس لي… هذا لمن أحب”.

Scroll to Top