محمد حيّاوي
حكايتي مع الكتب كانت مختلفة بعض الشيء، فقد قيض لي أن أفتح عينيّ في مكتبة ثرة تعود لخالي المثقف اليساري. كنت في الثانية عشرة، عندما غادرت كتب الأطفال وخضت في الروايات العالمية. ثم سمعت عن كتاب سحري اسمه «ألف ليلة وليلة» فجن جنوني، ولم أطق صبرا للحصول عليه وقراءته.
وبعد محاولات عدة، رفض أمين المكتبة العامّة في مدينة الناصرية آنذاك، الأستاذ صبري الأمين، إعارته لي بسبب صغر سني وعدم ملاءمة مضومنه لفئتي العمرية، الأمر الذي زاد شغفي بالكتاب وأثار خيالاتي وصار هاجسي وهمّي هو الحصول عليه، تحدّثت إلى خالي الذي كان يرعى نهمي للقراءة كي يستعيره، لكنّه رفض، ثم سمعت منه أن تلك النسخة الموجودة في المكتبة العامّة هي نسخة قديمة غير “مشذبة” تسمى نسخة بولاق، وهي غير مناسبة لعمري على الرغم من ندرتها، وما كان الأمر ليطفئ رغبتي المشتعلة، فكنت أرابط في حديقة المكتبة العامّة علني أجد من يستعير لي الكتاب من البالغين من دون جدوى.
وبعد مرور أسابيع طويلة صادفت محاميا يسكن في الشارع القريب من بيتنا، فتوسلته أن يستعير لي الكتاب، كان الرجل طيّبا للغاية ومهتما بالكتب القانونية تحديدا، فسألني في ما إذا كان الكتاب مخصصا للأطفال، وأخبرته بأنّه كتاب حكايات شيقة سينفعني كثيرا، وهكذا تمكنت من الحصول على المجلد وهرعت إلى سطح الدار، حيث كنت أقضي أياما مع حكايات التاجر والعفريت وحمّال بغداد والخياط الأحدب والتاجر اليهودي وحسن الدمشقي وغيرها من القصص التي ألهبت خيالي وأدخلتني في عالم أسطوري ملوّن، وكنت مندهشا للجرأة المهولة التي اعتمدها الرواة في وصفهم للأحداث والعلاقات والأسفار والحيل والصراعات. ومن يومها شغفت بالكتب وملمسها ورائحتها، فقرأت في سن مبكرة جدا كتاب الأم لغوركي وأين الله وآلام فارتر وقصة مدينتين وأعمال دوستويفسكي وتولستوي وعناقيد الغضب لشتاينبك وصورة دوريان غراي وزوربا اليوناني والشيخ والبحر، وغيرها العشرات من الكتب التي كانت تزخر بها مكتبة خالي، لكن كتاب ألف ليلة وليلة ظل علامة فارقة في مخيلتي، ألوذ إلى عوالمه السحرية كلما حزنت أو قلقت أو نُبذت، وعندما كبرت قليلا صرت أجمع النسخ المختلفة منه وأتسقط أخبار الطبعات الخاصّة به، حتّى تراكمت لدي بنية تحتية كبيرة من الطبعات والكتب التي تتناول حكايات ألف ليلة وليلة بالنقد والتحليل.
هكذا بدأت حكايتي مع الكتب وهكذا استمرت حتى يومنا هذا، لا استطيع الابتعاد عنها أو الفكاك منها، بعد أن أسرتني منذ طفولتي. ومن فرط تعلقي بها، أحببت كافة حلقات صنعها وتخصصت بها، فعلاوة على التأليف المضطرب، درست التصميم الطباعي وتخصصت فيه، وعملت، أثناء دراستي متطوعا، في المطابع، وتعلمت تقنيات الطباعة والتصحيف وتركيب المَلازم والتقطيع والتجميع و(التتييل) والتجليد والتصميغ، وغيرها من المراحل التي كنت وما زلت، اجد فيها متعتي وشغفي.